عندما وجه أحد النقاد إتهامه للكاتب البحريني (عقيل سوار) بأنه دائماً ما يتعمد إستحضار شخصية المجنون في نصوصه المسرحية ، وإنه يفرد لهذة الشخصية مساحة كبيرة .. كان رد الكاتب حازماً بأن شخصية المجنون جزء من النسيج الإجتماعي الذي تفتحت أعيننا على وجوده ، كما أن العمل الفني أو الأدبي لابد له وأن يفسح المجال لظهور جميع شرائح المجتمع وأن يرسم أبعاد وملامح شخصيتها وبذلك ينجح الكاتب في رسم صورة متكاملة لفضاء المجتمع والبيئة التي يتحدث عنها .
ومن منا لا يتذكر شخصية ( مرعوب ) في مسلسل الأقدار ، ولعلكم تتفقون معي بأن هذه الشخصية هي أول ما يتذكره المشاهد لهذا المسلسل .
كان أول لقاء لي مع شخصية المجنون في واقع الحياة حينما عرفني والدي منذ أكثر من خمسة وعشرون عاماً بـ ( عبود ) ، ذلك الرجل الذي تجاوز الأربعين من عمره والذي تجد صعوبة في تحديد لون ثوبه الأصلي لكثرة البقع التي تركها تطوافه في شوارع وأزقة المنامة وتحديداً بالقرب من المقاهي الشعبية القريبة من بلدية المنامة.
شعره أشعث بخصلات بيضاء كثيرة ، ولطالما لفتت نظري إليه الـ ( 100 فلس) الموضوعة في أذنه ، هو مسالم إلى أقصى الحدود وبمجرد أن تدخل معه في حوار اياً كانت طبيعته فإنه يتواصل معك بدرجة تشجعك على الإسترسال فتختفي الفوارق بينك وبينه حتى تغدو مجنوناً أنت الآخر !!
وكان سؤال والدي الدائم لعبود عن الهليكوبترات التي اشتراها مؤخراً ، وكان عبود يجيب مؤكداً بأن الطائرات ستصل البحرين قريباً وبجميع الألوان !!
في منطقة ( الديه ) التي سكنتها عدد غير قليل من هؤلاء المجانين ، وكان أشهرهم من عُرف بإسم ( الهدفون ) وهو مراهق كنا نراه في ذهابنا وإيابنا من المدرسة يرفع طرف ثوبه تحت إبطه ويمسك كلتا أذنيه هازاً رأسه يميناً وشمالاً وكأنه يستعذب لحناً دائم لا ينتهي .
أما ( عادل ) أو ( عدول ) كما نطلق عليه فإنه يضبط توقيته على ساعة وهمية يتخيل ارتدائها ،فكان أن جلب له والدي ساعة حقيقية قام أحد الأشقياء بتبديلها معه بساعة لا تعمل وحينما استنكرنا فعله أجاب ( بأن الساعة لا تعمل ولكن جلدها قوي ) !!
أحد المجانين قام بإلقاء قنبلة يدوية وهمية سحب زرها غاضباً بعد أن أمره والدي بأن يبتعد عن الطريق ، وتفادى دوي الإنفجار بأن أغلق كلتا أذنية وبدأ بالعد التنازلي !!
أما تلك المجنونة التي تذرع شارع البديع فأنا أشفق عليها قسوة الشارع وحرارة الشمس وهي تسير حافية القدمين ولطالما دعوت الله أن يبعد عنها أصحاب الضمائر الميتة التي قد تجدها هدفاً سهلاً لإرضاء نفوسهم المريضة .
أما أظرف المجانين فهوشاب طويل القامة يستوقفك طالباً 100 فلس لا يطمع في أكثر منها .
وخلافاً لما نعتقده ليس كل المجانين مسالمين أو مضحكين ففي طفولتي تعرضت لقرصة مؤلمة في خدي وجهها لي مجنون مازلت حتى اليوم أتحاشى الإقتراب منه ، ومنذ شهرين ذهبت لمجلس عزاء فتفاجأت بوجود شاب في الثلاثين من عمره يجلس بين النساء والسيدات يتراكضن هلعاً منه ، وقالت لي إحداهن أنه مجنون من المنطقة ولكنه عدواني يوجه ضرباته لأياً كان ، فما كان مني إلا الفرار مع الهاربات ..
هناك قصص مؤلمة وراء جنون البعض فليس كل مجنون ولد وهو يحمل جنونه ، هناك ظروف قاهرة قد ترغم الإنسان على توديع عقله وهذا ما عرفناه عن الرجل الوسيم ، الطويل القامة ، المهندم الذي وقف كخطيب وسط الناس في ساحة سوق الصالحية بدمشق ورفع صوته عالياً بعبارة واحدة كررها طويلاً (حمار إذا بتتزوج)!!
وقد قيل لنا إنه كان رجلا طبيعيا وكل غلطته أنه تزوج من إمرأة دفعته إلى هاوية الجنون .. في ذلك اليوم بكاه والدي فرأيت دموعه .. بكى شبابه .. وبكى رجولته .. وبكى عقله !!
أياً كانت مفارقات ونوادر المجانين من حولنا ومهما تساءل البعض عن الحكمة من وجودهم ، فأنا ارى أن الله أوجدهم لسببين أولهما : أن نحمده على نعمة العقل التي اسبغها علينا ، وثانيها أن نأخذ الحكمة من أفواههم كما يقولون ..
آخر المقال :
أفضل دليل على روعة الحكمة مجنون يتكلم … هنري روبنسون